النظـريـة والتجربـة
تقديم :
ينقسم النشاط البشري إلى قسمين اثنين؛ نشاط عقلي معرفي، ونشاط واقعي عملي، فالأول يوفر للثاني المعنى والمعقولية، والثاني يمد الأول بالمادة والمضمون، وهما نشاطان متكاملان، الغاية منهما معرفة الحقيقة سواء أكانت حقيقة الذات أو حقيقة الموضوعات الخارجية. وبناء على علاقة المعرفة بالحقيقة تتبلور مجموعة من الإشكالات الفلسفية تطال القضايا المتعلقة بمفاهيم: النظرية، التجربة، العلمية، الموضوعية، الحقيقة...
فكلمة النظرية مشتقة من فعل نظر الذى يفيد النظر بالعين (البصر)، كما يفيد النظر بالعقل (البصيرة)، ويحمل معاني التأمل والتحقق، ومنه مفهوم "النُّظَّار" أي المحقيقين. أما في معجم أندري لالاند: ف "النظرية إنشاء تأملي للفكر يربط نتائج بمبادئ"، وهي تختلف عن المعرفة العامية بكونها معرفة علمية منظمة، وعن المعرفة اليقينية بكونها معرفة افتراضية، وعن المعرفة المنفعية بكونها معرفة خالصة، وعن المعرفة الجزئية التفصيلية بكونها معرفة كلية. يقول كابلان: "النظرية بناء فرضي رمزي يتضمن مجموعة من القوانين التجريبية والمتسقة منطقيا حيث كل قانون يستنتج مباشرة من القانون السابق عليه ويفسر الواقعة عن طريق ربطها بمجموعة من الوقائع".
ومن بين الإشكالات الكبرى المتعلقة بهذه القضية نتناول ثلاثة إشكالات مترابطة، يتعلق الإشكال الأول بأهمية المنهج التجريبي وقيمته في إنتاج المعرفة العلمية، بينما يتساءل الإشكال الثاني عن مدى إمكان قيام عقلانية علمية، ليتولى الإشكال الثالث النظر في معايير علمية النظريات وكيفيات التحقق من صدقيتها ..
المحور الأول : التجربة و التجريب
ماقيمة التجربة والمنهج التجربي في بناء المعرفة العلمية؟
1- موقف كلود برنار: المعرفة إنصات للطبيعة
يعتبر كلود برنار أنه لا سبيل إلى المعرفة العلمية إلا عبر المنهج التجريبي الذي يتطلب من العالِم (الدارس/الباحث) الجمع بين شرطين منهجيين ضروريين: أولهما، قدرته على الجمع بين الملاحظة والتجربة واقتراح الفرضيات، وثانيهما أن يكون حذرا من الوقوع في الملاحظة الجزئية والمستعجلة لأن التساهل في الملاحظة يؤدي إلى تشويه إدراك الظاهرة المدروسة، إن إهمالا لبعض أجزائها أو تعميم بعضها على بعض. لهذا يرى كلود برنار أنه "على الملاحظ أن يكون إذن أثناء معاينته للظواهر بمثابة آلة تصوير تنقل بالضبط ما هو موجود في الطبيعة حيث يجب أن يلاحظ دون فكرة مسبقة وعليه أن يصمت وأن ينقل كل ما تمليه عليه الطبيعة"، لكن هذا الإملاء وهذا الإنصات لا يتم اعتباطا وإنما يتحقق باتباع الخطوات التالية التي توفر له القدرة على الجمع بين الفكر النظري والممارسة التجريبية:
1-- الملاحظة الواقعية الدقيقة
2-- ميلاد الفرضية تبعا للملاحظة / المعاينة
3-- العودة إلى الواقع من أجل تجريب مدى صدق الفرضية / التصور
4-- الاستنتاج .. ثمرة العمل التجريبي الذي تتأسس عليه ملاحظات جديدة.
2- موقف روني توم: خطوات "المنهج" التجريبي
يميز روني توم بين مصطلح منهج ومصطلح فعالية، فينسب الأول لفلسفة ديكارت (المنهج الشكي)، ويربط الثاني بالممارسة التجربية، لهذا يرفض توم استعمال كلمة منهج في العمل التجريبي، ويستعمل عوضا عنه مفهوم الفعالية التجريبية أو الممارسة التجربية، والتي قد تكون لها أصول سابقة عن العلم وعن المنهج، و من أجل ممارسة تجريبية علمية يؤكد توم على وجوب احترام الإجراءات التالية:
1-- عزل المجال المراد دراسته: تحديد الموضوع والزمان والمكان بدقة، مع الاستعانة بالخيال...
2-- إعداد المجال: توفير عناصر الموضوع المدروس ( مواد الاختبار)
3-- القيام بالتجربة: أي تسليط أدوات البحث على الموضوع المبحوث بدقة.
4-- تسجيل النتيجة: بصيغة دقيقة قابلة للقياس وتستجيب للنسق المدروس ..
و رغم المرور من هذه الاجراءات فإن الواقعة التجريبية وحدها لا تؤسس واقعة علمية إلا إذا حققت المطلبين التاليين:
- أولا: وافقت قابليتها للتكرار، أي تقبل إعادة الإنشاء في مجالات زمانية ومكانية مختلفة.
- ثانيا: أن يكون لها أثر مادي في الحياة الناس وأثر نظري في تطور العلم.
المحور الثاني: العقلانية العلمية
هل يمكن الحديث عن صفة العقلانية داخل العلم؟ إذا كان ممكنا فكيف؟ وإذا كان مستحيلا فما هي العوائق؟
1- موقف هانز رايشنباخ: المعقولية العلمية
ترى المدرسة الوضعية أنه لا يصح استعمال مفهوم "العقلانية العلمية" في مجال العلوم التجريبية، إذ العقلانية مذهب فلسفي مثالي يعتبر العقل هو المصدر الوحيد للمعرفة. ولكن رفض استخدام مصطلح العقلانية العلمية لا يعني إبعاد العقل عن العلم أو اعتبار المعرفة العلمية غير عقلية، ذلك أن المعرفة التجريبية تقتضي "استخدام العقل مطبقا على مادة الملاحظة"، أي استعمال العقل خلال القيام بالممارسة التجريبية لا منفصلا عنها. وهذا ما يسميه رايشنباخ ب" المعقولية العلمية". وبناء عليه يؤكد أن الانصراف إلى المعرفة العقلية بعيدا عن التجربة والملاحظة لا يؤسس أية معرفة علمية بقدر ما ينتج أبنية عقلانية تشبه النزعة الصوفية الحدسية التي ترى الحل في الانفصال عن الواقع، يقول راشنباخ: "عندما يتخلى الفيلسوف عن الملاحظة التجريبية بوصفها مصدرا للحقيقية لا تعود بينه وبين النزعة الصوفية إلا خطوة قصيرة".
2- موقف غاستون باشلار: العقلانية المطبقة
على خلاف هانز راشنباخ لا يعترض غاستون باشلار على استعمال مفهوم العقلانية في المعرفة العلمية مادامت قابلة للتحقق متى استطاعت العلوم الفزيائية أن تقيم جمعا دقيقا ووثيقا بين العقل والتجربة، حيث لا يمكن بناء معرفة علمية إلا بحصول يقين مزدوج:
1- اليقين بوجود الواقع في قبضة العقل، أي عقلنة الواقع حتى يستحق تسمية "واقع علمي".
2- اليقين بانتماء الحجج العقلية إلى خصائص المنهج التجريبي.
فبشلار ينفي إمكان قيام معرفة على أحد شرطي البحث الفزيائي منفصلا عن الآخر، العقل والتجربة، قائلا: "لا توجد عقلانية فارغة كما لا توجد مادية عمياء". متجاوزا ذلك الصراع التقليدي بين المدرستين العقلانية والتجريبية. ومؤسسا لتصور ابستمولوجي معاصر لا يقبل العقلانية إلا مطبقة ولا المادية إلا مَبْنِية. أي إخضاع العقل للتجربة وإخضاع التجربة للعقل. فإذا كان أنصار الاتجاه التجريبي يعولون على التجربة وحدها لتحقيق معرفة علمية فإن "غاستون باشلار" يضيف إلى شرط التحقق التجريبي شرط اليقين العقلي، حيث يجب على العالِم الفزيائي أن يجمع في نظريته العلمية بين التجربة والعقل. لكن الزلزال الذي أحدثته التطورات المعاصرة في العلم والتقنية أسهم في إعادة النظر في مجموعة من المفاهيم العلمية بما فيها مفهوم الواقع التجربي نفسه الذي أضحى واقعا افتراضيا.
المحور الثالث: معايير علمية النظرية العلمية
بتطور المعرفة العلمية وما رافق هذا التطور من تجاوز النظريات العلمية بعضها لبعض عبر مراجعتها ونقدها والانقلاب عليها أحيانا كما يرى طوماس كوهن، حيث ظل العلم مختلطا بأمور غير علمية، تيسر طرح السؤال التالي: كيف نتحقق من سلامة النظرية العلمية؟ أو قلْ: كيف يتم البث في صدقية النظرية العلمية؟
1- الموقف التجربي (رايشنباخ، برنار، فرنسيس بيكون...): معيار التجربة
يتحدد معيار التحقق من صدقية النظرية العلمية في نظر المدرسة التجربية في قابليتها للاختبار التجربي، مادامت النظرية أصلا هي صورة ناسخة لموضوعات الواقع التجربي، حيث التجربة هي منبع النظرية ومحكها ووسيلة بيان صدقها من كذبها، ولا يصح نعث معرفة ما بصفة "العلمية" ما لم تخضع للفحص التجربي، وكل تجاوز لهذا الشرط فهو خروج من العلم وارتماء في أحضان الأسطورة والمعرفة الخيالية.
2- موقف ألبرت انشطين: معيار العقل
يؤكد أنشطين أن النظريات العلمية المعاصرة فرضت علميتها بمعيار العقل والتماسك المنطقي، إذ العقل وحده كافٍ في التحقق من صدقية النظريات التي يستعصي عرضها على الاختبار التجريبي، فهو الذي يمنح النسق العلمي بنيته. وحجة انشطين هي أن المفاهيم والمبادئ التي يتكون منها النسق النظري للعلم (فزياء، رياضيات، منطق...) هي إبداعات حرة للعقل الرياضي التجريدي، وهي التي تشكل الجزء الأساس من النظرية العلمية، لتبقى التجربة بمثابة مرشد في وضع بعض الفرضيات وفي تطبيقها تجريبيا. يقول صاحب نظرية النسبية: "لا يمكن استنتاج القاعدة الأكسيومية للفيزياء النظرية انطلاقا من التجربة، إذ يجب أن تكون إبداعا حرا".
3- موقف كارل بوبر: معيار التكذيب
أسهم الفيلسوف النمساوي كارل بوبر سليل مدرسة فيينا، في قلب الطاولة على الوضعيين، حيث لا تستحق في نظره النظرية صفة العلمية بمجرد خضوعها للتجربة، وإنما بقابليتها للتزييف، أي أن العالِم ملزم بتقديم الاحتمالات الممكنة لتكذيب نظريته وإبراز إمكانات هدمها وتجاوزها، بعبارة أخرى لا تكون النظرية علمية إلا إذا كانت فروضها قابلة للتفنيد والدحض، وإلا فإن "النظرية التي لا تتوخى اكتشاف العيب فيها هي نظرية غير قابلة للاختبار العلمي، يقول كارل بوبر: "لا يعتبر أي نسق نظري نسقا اختباريا إلا إذا كان قابلا للخضوع للاختبارات التجريبية ... إن قابلية التزييف وليست قابلية التحقق هي التي ينبغي أن نتخذها معيارا للفصل بين ما هو علمي و ما ليس علميا". أما عن مراحل هذا التحقق فيميز " كارك بوبر" بين أربع مراحل:
1) مرحلة التحقق من السلامة الداخلية للنسق النظري .
2) مرحلة تحديد الصور المنطقية للنظرية وبيان ما إذا كانت تجريبية أو غير تجريبية .
3) مرحلة المقارنة بين النظرية المدروسة وباقي النظريات العلمية حتى نعرف بأنها نظرية جديدة .
4) مرحلة القيام بتطبيقات تجربية على بعض نتائج تلك النظرية.
1- الموقف التجربي (رايشنباخ، برنار، فرنسيس بيكون...): معيار التجربة
يتحدد معيار التحقق من صدقية النظرية العلمية في نظر المدرسة التجربية في قابليتها للاختبار التجربي، مادامت النظرية أصلا هي صورة ناسخة لموضوعات الواقع التجربي، حيث التجربة هي منبع النظرية ومحكها ووسيلة بيان صدقها من كذبها، ولا يصح نعث معرفة ما بصفة "العلمية" ما لم تخضع للفحص التجربي، وكل تجاوز لهذا الشرط فهو خروج من العلم وارتماء في أحضان الأسطورة والمعرفة الخيالية.
2- موقف ألبرت انشطين: معيار العقل
يؤكد أنشطين أن النظريات العلمية المعاصرة فرضت علميتها بمعيار العقل والتماسك المنطقي، إذ العقل وحده كافٍ في التحقق من صدقية النظريات التي يستعصي عرضها على الاختبار التجريبي، فهو الذي يمنح النسق العلمي بنيته. وحجة انشطين هي أن المفاهيم والمبادئ التي يتكون منها النسق النظري للعلم (فزياء، رياضيات، منطق...) هي إبداعات حرة للعقل الرياضي التجريدي، وهي التي تشكل الجزء الأساس من النظرية العلمية، لتبقى التجربة بمثابة مرشد في وضع بعض الفرضيات وفي تطبيقها تجريبيا. يقول صاحب نظرية النسبية: "لا يمكن استنتاج القاعدة الأكسيومية للفيزياء النظرية انطلاقا من التجربة، إذ يجب أن تكون إبداعا حرا".
3- موقف كارل بوبر: معيار التكذيب
أسهم الفيلسوف النمساوي كارل بوبر سليل مدرسة فيينا، في قلب الطاولة على الوضعيين، حيث لا تستحق في نظره النظرية صفة العلمية بمجرد خضوعها للتجربة، وإنما بقابليتها للتزييف، أي أن العالِم ملزم بتقديم الاحتمالات الممكنة لتكذيب نظريته وإبراز إمكانات هدمها وتجاوزها، بعبارة أخرى لا تكون النظرية علمية إلا إذا كانت فروضها قابلة للتفنيد والدحض، وإلا فإن "النظرية التي لا تتوخى اكتشاف العيب فيها هي نظرية غير قابلة للاختبار العلمي، يقول كارل بوبر: "لا يعتبر أي نسق نظري نسقا اختباريا إلا إذا كان قابلا للخضوع للاختبارات التجريبية ... إن قابلية التزييف وليست قابلية التحقق هي التي ينبغي أن نتخذها معيارا للفصل بين ما هو علمي و ما ليس علميا". أما عن مراحل هذا التحقق فيميز " كارك بوبر" بين أربع مراحل:
1) مرحلة التحقق من السلامة الداخلية للنسق النظري .
2) مرحلة تحديد الصور المنطقية للنظرية وبيان ما إذا كانت تجريبية أو غير تجريبية .
3) مرحلة المقارنة بين النظرية المدروسة وباقي النظريات العلمية حتى نعرف بأنها نظرية جديدة .
4) مرحلة القيام بتطبيقات تجربية على بعض نتائج تلك النظرية.
إرسال تعليق تعليقات بلوجر تعليقات الفيسبوك